Banner Post

صناعة التفاهة في زمن المتاهة..!

محمد سعود

لقي كتاب التفاهة للفيلسوف الكندي الان دونو Alain Deneault في كتابه “نظام التفاهة” (La médiocratie تجاوبا مع شرائح كثيرة من المثقفين في المجتمعات البشرية،، لأنه استطاع أن يحلل نظام التفاهة على اعتبار أنها أيضا نظام وصناعة لها من يشرفون على إنتاجها والترويج لها ورعايتها وأيضا أتباعها الذين يتزايدون يوما بعد يوم،، إلى درجة أن بعض المثقفين انساقوا وراءها وأصبحوا يدافعون عنها،،

ورغم أن هذا الكتاب الذي ألفه آلان دونو قام بتحليل هذا النظام ،،إلا أن كتابا مهما آخر يحلل التفاهة بطريقة أخرى دون الحديث عنها ،، وهو كتاب “الحيوان الحكاء -كيف تجعل من الحكاية بشرا” للكاتب الأمريكي جوناثان غوتشل وترجمته بثينة الإبراهيم

هذا الحيوان الحكاء يمكن أن نجد له مقابلا في لهجتنا الدارجة وهو كلمة”حلايقي” ،،وإن كانت هذه الكلمة تحمل في طياتها قدحا لشخص تافه يقول أي شي ء ومحتوى حديثه لا شيء فإن نفس الكلمة قد تحمل معنى أخر،، وهي صفة لشخص يمارس هذه المهنة ويتمتع بموهبة في لفت الانتباه وجذب الأنظار إليه بطريقة بديعة في السخرية وسرد الأحداث وتفسيرها بطريقة ساخرة مرة وممتعة في نفس الوقت ..

هذا الحيوان الحكاء تطور مع تطور التكنولوجيا فاستعان بأحدث الآلات والوسائط ليحكي لنا عن السياسة والطب البديل والرياضة وقضايا مجتمعية،، وأصبح له أتباع يتزايدون يوما بعد يوم،، لم تفلح التبليغات عن المحتوى ولا الشخص في إلجام هذا الإنسان الحكاء ،،وحتى ولو تم إقفال قناته يفتح أخرى،، لا شيء يردعه ولا يعير أي اهتمام للسب أو الشتم أو التعليقات التي تسيء لمحتواه ولا إلى شخصه،، فما دامت التعاليق موجودة والمشاهدات كثيرة فكلها تدخل في إنجازاته ويرفع من جرعة الاستفزاز ويضاعفها،، لأنه أصبح مؤثرا ولا يهم نوع التاثير،، ولتشجيع هذه الصناعة لجأت شركة اليوتوب بحذف علامات عدم الإعجاب وتركت علامة واحدة فقط وهي الإعجاب بالمحتوى.. بمعنى أن لم يعجبه المحتوى فليتركه ،،

هذا الحيوان الحكاء غالبا ما يلجأ إلى نظرية المؤامرة، ،فالأرض لا زالت في نظره مسطحة وأن في القطب الشمالي حفرة تقودنا إلى العالم السفلي تخفيها الأقمار الاصطناعية،، وأن “بن لادن” و”صدام” و”هتلر” لازالوا أحياء،، وأن وكالة الفضاء الأمريكية تخفي عنا الكثير من الأشياء التي تفسر في نظرهم بعض الظواهر الغيبية، ،وبعد أن بدأ الإنسان يتخلص من رؤية الجن أصبح يعيش مع كائنات أخرى فضائية. والأخطر من كل هذا أن يتم استغلال هذه النماذج لخدمة أنظمة استبدادية ويتقاضى عنها المؤثرون أجرا ،،كما أن هذه الأنظمة تساعدهم بتسريب معلومات حصرية عن خصومها من مخافر الشرطة والمخابرات للرفع من نسبة المشاهدات وإضفاء المصداقية على هؤلاء المؤثرين في نقل الأخبار وتحليلها،، وذلك للتغطية على كل الأخبار الكاذبة التي نسجوها من خيالهم ،، وبدل أن يتحدث هؤلاء المؤثرون عن مشاكل بلدانهم يتحدثون عن مشاكل بلدان أخرى وغالبا ما تكون مجاورة لهم.. وأن بلدانهم عرضة لمؤامرات ويعلقون دائما فشلهم على دول أخرى ومهما كان نوع هذا نوع الفشل ،،وذلك لتبرئة الأنظمة في ما يحدث ولا حتى ما سيحدث مستقبلا ،،

هذه التفاهة تجاوزت كل الحدود وقد أكد الروائي والكاتب التشيكي الأصل ميلان كونديرا في روايته الأخيرة “حفلة التفاهة” إلى أن «التفاهة» هي المُنْقِذ الأول لإنسان الألفية الثانية.

ويقول: «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا وقف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة مُمكنة: ألا نأخذه على محمل الجدّ» وفي كتابه «ثلاثية حول الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار» يقول :«لقد صار الإنسان الذي ارتقى سابقاً مع ديكارت مرتبة سيّد الطبيعة ومالكها مجرّد شيء بسيط في نظر قوى التقنية والسياسة والتاريخ التي تتجاوزه وترتفع فوقه وتمتلكه. ولم يكن لكيانه المحسوس، لعالم حياته في نظر هذه القوى أي اعتبار”

وكان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في انتصار التفاهة التي تحدث عنها بعمق الفيلسوف الكندي آلان دونو .

لا أحد منا ينكر سلطة التفاهة التي بسطت نفوذها على جميع المجالات،، وأصبح بعض المؤثرين Influencers في وسائل التواصل الاجتماعي تفوق شهرتهم شهرة أي كاتب أو شاعر أو فنان أَو فيلسوف،فعدد المتابعات لمحتوى شخص واحد يفوق عدد من يقرأون نصوصا لكل كتاب العالم،، علما أن المحتوى الذي يقدمونه غالبا ما يكون مجرد دغدغة للمشاعر من خلال أخبار كاذبة أو إشاعات أو يكون مبنيا على نظرية المؤامرة ،، وحتى لو أخطأ وعبر غن مستواه المنحط ثقافيا سيتحول إلى إنجاز وكنموذج شخصية” إيكشوان” الذي كانت يتحدث عن فيروس H1N1 إلى درجة أن هذا الخطأ حوله إلى شخصية مشهورة.

وإذا كانت وكالة ناسا نشرت مؤخرا صورا لأبعد نقطة في الكون استطاع أن يلتطقها تلسكوب “جيمس ويب” الذي صرفت عليه ملايير الدولارات وتطلب سنوات من العمل والجهد من ثلاث وكالات فضائية فإن بعض المؤثرين لازالوا يتحدثون على أن الأرض مسطحة،، لأن خطابهم موجه أساسا إلى من رؤوسهم مسطحة،، وما أكثرهم. وهناك من ذهب إلى أكثر من ذلك وبدأ في اعطاء الدلائل على أن سحابة سديم كارينا يحمل خريطة بلده. بدل البحث عن ما يخفيه هذا السديم الذي تعكف واحد وأربعون دولة بخيرة علمائها في الكشف عن بعض أسراره.

قد نجد عذرا لعامة الناس الذين ينشرون محتويات تفتقر لكل الضوابط الاخلاقية و للمصداقية لأنها غير مهنية وإن كانت أحيانا لا تفتقر للمهنية . ولكن لا يمكن قبوله هو سقوط بعض المثققين في هذه التفاهة وبدل اللجوء إلى النقد أو إبداء الآراء في كتابات أو أعمال فنية يلجؤون إلى أبشع أنواع السب والشتم والتملق لبعضهم البعض من خلال محتويات سوقية رديئة وذلك لحاجة في نفس يعقوب وإن كانت حاجة يعقوب خالية من الانتقام والحسد ،، وأصبحنا في القرن الواحد َوالعشرين نستحضر بقوة شعراء الهجاء والمديح،، وإن كنا دَرَسْنا شعرهم في الماضي كأغراض ظهرت في عصور خَلَت،، فإنها عادت بقوة وبابتذال يفوق الخيال،، .والسبب في كل هذا هو أن التفاهة ضمنت لهم موقعا في الحقل الثقافي والفني،، وبمحاربة التفاهة سيكونون أول الضحايا.

تستمر التفاهة في حصد الملايين المعجبين،، لأن سلطتها أصبحت عظيمة وتتعاظم يوما بعد يوم،، انخرط فيها جيش عرمرم من التافهين ولم تبق إلا أقلام قليلة تنتقد هذه الوضع ولها الجرأة الكافية لوضع الأصبع على الجرح رغم أنها تتعرض أحيانا إلى سيل من الانتقادات التي تتجاوز كل لباقة في الرد..

-الرسم للفنان البريطاني جون هولكروفت John Holcroft

اترك تعليقا