Top

حين تفرض عليك مدينتك العيش في قفص..!

بقلم نجم الدين سيدي عثمان

الإنسان الذي يولد في بيئة واحدة ويعيش فيها سنوات طويلة ولا يبارحها – خصوصًا في القرى، والفضاءات المغلقة، وبعض الأحياء الشعبية في المدن الكبرى – ينخفض السقف فوق رأسه حتى يكاد يحجب عنه دخول الضوء. ومع مرور الوقت يتشكّل حوله ما يسمى “المجال الرمزي المغلق”: فضاء صغير يتحرك فيه تمامًا كما الكناري في قفص.

🔸لا يشعر بالسجن… لكنه لا يعرف الطيران.

فالناس هناك يعرفون تاريخك القديم، يعرفون تربيتك، عثراتك، سقطاتك، وأخطاءك الصغيرة. ومن يعرفك منذ الطفولة يصعب عليه – نفسيًا وفكريًا وذهنيًا، ومهما كان موضوعيًا – أن يراك في موقع قوة أو في مرتبة نجاح أو في المقدمة؛ لأن تقدّمك يُقرأ دائمًا على أنه تأخرٌ لآخرين. ولهذا يبقى كثير من الناس “عاديين” في أعين أصدقائهم وجيرانهم، مهما ارتقت إنجازاتهم.

وليس هذا حسدًا بالمعنى الشعبي، بل آلية بشرية طبيعية تتضخّم كلما ضاق المجتمع واشتدّ انغلاقه. فكل مجتمع صغير – بوعي أو دون وعي – يحاول أن يمنع أي فرد من كسر القالب الذي صمّمه له، وهو قالب التشابه.

وأمام هذا الواقع، تتشكل الاستجابة البشرية في اتجاهين لا ثالث لهما:

هناك من يستسلم للضغط، ويعود إلى التشكل داخل القالب ليُرضي الجماعة ويتجنب الصدام.

وهناك نموذج ثان يواصل التقدم رغم سوء الفهم اليومي في محيطه، ورغم المشكلات الجانبية التي يثيرها إصراره على السير خارج القطيع، في بيئة تحب التكرار، وتخشى التميّز والاختلاف، وتقاوم بشدة، وتبحث باستمرار عن قولبة الجميع في إطار واحد.

وبالنسبة لأصحاب الموهبة والاختلاف والتميّز – أولئك الذين تضيق بهم مدنهم مهما كبرت – هنا بالذات، تحديدًا، في طروف كهذه يصبح تغيير المكان ضرورة، خصوصًا في بدايات العمر حين لا مسؤوليات ثقيلة، ولا شيء يخشاه الإنسان من خسارته بتغيير المحيط.

🔸تغيير البيئة والترحال إلى مدينة أكبر أو إلى بلد آخر يعرّف الإنسان بنفسه من جديد.

يعرضه لنسخة أخرى منه لم يكن يعرفها: نسخة قادرة على التحليق، على المبادرة، وعلى اتخاذ القرارات دون ظلّ الجماعة وبعيدا عن التوقعات. وأول ما يفعله السفر أنه يفتح لك أفقًا أوسع مما اعتدت عليه؛ يجعلك تفهم أنك كنت تتحرك طويلًا تحت سقف منخفض. وعندما تخرج، تكتشف أن قدراتك الهائلة كانت معطّلة.

كما أن الترحال في أرض الله الواسعة يسمح للإنسان أن يبدأ من الصفر، بلا رواسب ولا حسابات قديمة. ويكسبه وقتًا وجهدًا وطاقة كان سيهدرها وسط الأشخاص الذين يحيطون به منذ الطفولة؛ أولئك الذين يعيدونه – دون قصد – إلى نسخة قديمة منه، ويتعاملون مع كل محاولة للتغير على أنها شكل من أشكال التمرّد.

كما أن السفر – إلى الفضاءات الأرحب، سواء بتغيير المدينة أو حتى البلد – سيجعلك تجد من يقدّر موهبتك ويضعها في مكانها الصحيح. ففي البيئات التي تقبل التنوع والاختلاف والتميّز ستجد، حتمًا، من يفهمك ومن يشبهك.

والسفر ؛ ليس شرطًا أن يكون إلى عوالم بعيدة، ولا أن يتحوّل إلى إقامة دائمة يكفي أن يسافر الإنسان… ثم يعود.

يكفي أن يخرج قليلًا من فضائه الأول، وأن يتنفس في مكان لا يعرفه فيه أحد. فالذي لم يسافر، ولم يفارق حيّه وقومه وبلدته – ولو لأيام – سيظل يقرأ العالم بعين واحدة، ويقيس البشر بمعايير البيئة الصغيرة التي كوّنته… فيظن، دون وعي، أن ما عرفه هناك هو معيار الوجود كله، وأن العالم يجب أن يكون نسخة من حيه الضيق. وهكذا يتعامل مع الاختلاف بحذر، وارتياب، وخوف… وهذه مشكلة البيئات المغلقة.

أما من فارق أهله وخاض الدروب في الأرض، فستجده – في الغالب – يتسامى، ويترفّع، ويتفهّم.

فقد رأى من اختلاف الناس – في ألسنتهم وعاداتهم وثقافاتهم – ما يجعله يفهم دوافعهم وأسبابهم، ويدرك الحكمة في هذا التنوع، بل ويخلق للناس أعذارًا، ويشفق عليهم، وينأى بنفسه عن الخصام.

👈في الأخير، يصدق ذلك القول الذي يلخص التجربة البشرية كلها بدقة:

“لن تزهر في قوم نشأت فيهم، وإن أزهرت فلن تثمر. فالسفر للنوابغ كالتلقيح للأزهار، والمكوث في أرض نشأت فيها يعني… الذبول.”

🔶 بصراحة: هل تدفعك مدينتك/حيك للتقدم والتطور… أم أن محيطك يقاوم ويعارض ويصر على إبقائك في قفص؟

اترك تعليقا