Top

إدغار آلان بو..لغز الحياة والموت الذي صاغ أدب الرعب والغموض

في مثل هذا اليوم، السابع من أكتوبر من عام 1849، رحل أحد أكثر العقول الأدبية غموضا وإبداعا، تاركا وراءه إرثا أدبيا هائلا وعلامة استفهام كبرى حول ظروف وفاته. إنه الأديب الأمريكي إدغار آلان بو، الذي لم تكن نهايته سوى فصل آخر من فصول حياته المليئة بالمأساة والغموض، والتي انعكست بوضوح على أعماله الخالدة.

طفولة بائسة..النشأة التي شكّلت أدب الرعب

وُلد إدغار آلان بو في بوسطن في 19 يناير 1809، وكانت طفولته أولى محطات المأساة التي لازمت حياته. تخلى والده عن العائلة وهو رضيع، ثم توفيت والدته وهو في الثانية من عمره، ليجد نفسه يتيما في ملجأ للأيتام. من هناك، انتقل إلى رعاية عائلة “آلان” التي حمل اسمها، لكنه عانى لاحقا من قطع العلاقة مع والديه بالتبني أيضا، مما جعل من فكرة الهجران واليتم موضوعا متجذرا في أعماقه.

رحلة معاناة..بين الجامعة والجيش والكتابة

آمن بو بمستقبله كأديب منذ الصغر، وبدأ كتابة الشعر في سن الثالثة عشرة. التحق بجامعة فرجينيا، حيث برع في دراسة اللغات والآداب، لكن مشاكله المالية دفعه إلى القمار في محاولة يائسة لتسديد ديونه، ما أجبره على ترك الدراسة بعد أقل من عام. في محطة أخرى من محطات بحثه عن الاستقرار، انضم إلى الجيش الأمريكي عام 1827 تحت اسم مستعار هو “إدغار بيري”, ونشر في نفس العام مجموعته الشعرية الأولى “تيمورلنك وقصائد أخرى”، والتي لم يتبقَ منها سوى 12 نسخة في العالم اليوم، لتكون نادرةً ثمينة.

الحب والفقدان..الوقود الدرامي لأدبه المظلم

في عام 1836، تزوج بو من قريبته فرجينيا كليم، التي كانت تبلغ من العمر 13 عاما فقط. لكن شرارات السعادة لم تدم طويلا، إذ توفيت فرجينيا بمرض السل بعد أحد عشر عاما من الزواج. كان رحيلها الضربة القاضية لرجل سبق أن فقد النساء الأكثر تأثيرا في حياته: والدته، ووالدته بالتبني (فرانسيس ألان)، وأخيرا زوجته. يرى كُتّاب سيرته أن هذا الفقدان المتكرر هو الوقود الذي غذى موضوعات الموت والحزن والرعب في أدبه، محوّلاً مأساته الشخصية إلى فن عالمي خالد.

المهنة والإرث.. بين نقد لاذع وابتكار أدب بوليسي

لم يكن بو شاعرا وروائيا فحسب، وإنما كان ناقدا أدبيا لاذعا اشتهر بقسوته، حتى أُطلق عليه لقب “رجل التوماهوك”، تيمناً بالفأس الحادة التي كان يهشّم بها أعمال الكتّاب المعاصرين له. هذه القسوة، إلى جانب قصصه الغامضة التي كُتبت بضمير المتكلم عن شخصيات تتعاطى الأفيون، نسجت حوله هالة من الشك والغموض، وجعلت الجمهور يعتقد أنه يعيش نفس الحكايات المظلمة التي يكتبها.

على الصعيد الإبداعي، يُعتبر بو مخترع فن القصة البوليسية بامتياز. فمن خلال سلسلة قصصه التي بدأت بـ “جرائم شارع المشرحة” (أو “شارع مورغ”)، ثم “لغز ماري روجيه” و “الرسالة المسروقة”، ابتكر فكرة المحقق الذكي الذي يحل الألغاز المعقدة عبر التحليل المنطقي والدقيق للقرائن، مهددا بذلك الطريق لأبطال مستقبليين مثل شرلوك هولمز وهركول بوارو.

رحيل غامض..كلغز من قصصه

كانت نهاية بو في الأربعين من عمره لغزا أشبه بأحد قصصه. في عام 1849، اختفى أثناء رحلة من فرجينيا إلى نيويورك، ليعثر عليه بعد أسبوع في إحدى شوارع بالتيمور في حالةٍ مزرية، يرتدي ملابس ليست له، ويهذي ولا يقوى على الكلام بوضوح. توفي بعد أربعة أيام في السابع من أكتوبر، دون أن يتمكن من كشف سر ما حدث له. ولا تزال نظرية تسممه أو وفاته بسبب “احتقان الدماغ” مجرد تخمينات في قضية لم تُحل بعد.

كلمة أخيرة..

ظل إدغار آلان بو، رغم عبقريته، يعاني من البؤس والفقر طوال حياته، وهو ما لخّصه الشاعر الفرنسي شارل بودلير بقوله: “إن مصدر شقائه كان بيئة محدودة غير مثقفة، لم تستطع أن تفهمه وترقى إلى تقديره”. اليوم، وبعد أكثر من قرن على رحيله، يبقى بو لغزا حيا، وأعماله شهادة خالدة على أن أعظم الإبداعات قد تولد من رحم المعاناة.

اترك تعليقا