Banner Post

دفاتر الخسران..وداعا نور الدين بكر

جمال بدومة

هناك شيء ساحر في الشخصيات التي تقمصها نور الدين بكر، بفضل موهبته الفذة وملامحه الفريدة، التي لم تستفد منها السينما المغربية كما يجب، لذلك كان لا بد أن يخرج حواره من مسلسل قديم، ويتجول في وسائل التواصل الاجتماعي، ليلخّص وضع بلاد بأكملها، عشرين عاما بعد “سرب الحمام”، الذي طار بعيدا وتفرق، كل حمامة في اتجاه.

“راك غادي فالخسران آحمادي”… عبارة مضحكة، رددها بكر بلكنته الاستثنائية، وانتشرت مثل النار في الهشيم، على حسابات وأفواه جيل لم يشاهد المسلسل الذي اخرجه محمد عاطفي، أيام كان المغرب رومانسياً، بالأبيض والأسود.

جيل لم يعرف “لَعْوَج” الذي كان يعذبنا بصمته “جنب البير”، ولا “الطاهر بلفرياط” ومغامراته مع “الكولا والصوميلا” ولم يتفرج على “حسي مسي” التي جعلت مغرب التسعينيات يستلقي على قفاه من شدة الضحك، لكنهم مع ذلك قهقهوا حتى سقطوا على “الكلاڤيي” وهم يعيدون سماع الحوار الذي أداه بكثير من العفوية والاقتدار نور الدين بكر، وتفننوا في فبركة مونتاجات يرد فيها الممثل المخضرم على السياسيين والأغبياء والمدعين بالعبارة التي باتت تلخص وضع البلاد التي…

مسلسل “سرب الحمام” جمع عددا كبيرا من النجوم في نهاية التسعينيات، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، بالاضافة الى بكر كان هناك حسن الصقلي ومحمد مجد ومحمد بسطاوي ومحمد بنبراهيم ومولاي عبد الله العمراني والمحجوب الراجي وخديجة جمال، رحمهم الله، ومحمد خيي وعمر السيد ورشيد الوالي وسعاد صابر ونعيمة إلياس وعائشة ساجد أطال الله في عمرهم. وحدها أغنية الجينيريك تجعلك تحن الى ذلك “العصر الذهبي”، الذي مر بسرعة دون ان ننتبه اليه. “لا للظلم لا…” بصوت العملاق عبد الهادي بلخياط، على إيقاعات المبدع عزيز حسني، الذي اختفى مع عوده في زحمة السنوات، دون ان ننسى “اسماء لمنور” التي تمنح صوتها لبعض الاغاني في المسلسل، سنوات طويلة قبل أن تربّي “الزين والحمام”.

نحن جيل تابع “سرب الحمام” بكثير من الشغف والانتباه، لان الإنتاجات الدرامية الوطنية وقتها كانت نادرة، وعندما تتحقق تكون مناسبة ليجتمع خيرة فناني البلد، القدامى منهم والجدد. بالاضافة الى الممثلين المخضرمين، عرف المسلسل مشاركة عدد محترم من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، نوفل البراوي وسعيدة باعدي وأختها حفيظة وعبد الغني الصناك وحفيظة كسوي ورشيد العروسي… بعضهم كان يؤدي دوره الاول في التلفزيون.

كان المعهد وقتها وسط العاصمة، في الطابق الرابع من البناية الخلفية لمسرح محمد الخامس، وكان المخرجون يفتشون عن ممثليهم غير بعيد، بين مقهى “المثلث الأحمر” وشقيقه “Galina” في شارع المنصور الذهبي، الذي غير اسمه بعد ان تغيرت أشياء كثيرة وسط الرباط. أهم المؤسسات الثقافية وقتها كانت وسط المدينة، جنب مسرح محمد الخامس: المكتب الثقافي الفرنسي، الذي كان يمول كثيرا من اللقاءات والبرامج الفنية، ويوفر منحا للفنانين والطلاب كي يدرسوا في الخارج، كان محاذيا ل “Galina”. وعندما تكون متجها الى باب الرواح من محطة القطار، تترك على يمينك معهد غوته الألماني بفضاء “ڤايمر” الذي كان يحتضن لقاءات ادبية، ينشطها الصديق رشيد قاسمي، قبل أن يتحول الى مطعم شهير. على اليسار يوجد المركز الثقافي الفرنسي، بمكتبته الغنية وقاعة “جيرار فيليب” التي كنا نشاهد فيها الافلام والمسرحيات والندوات. هناك تفرجت على أجمل مسرحية للراحل الطيب الصديقي: “موليير او حبا في الانسانية”، وهناك سمعت ريجيس دوبري يحكي عن مغامراته مع كاسترو وغيفارا، أيام كانت الأحلام حمراء والحياة وردية، وسط قاعة لم تستوعب كل الجمهور، وهناك حضرنا كثيرا من المعارض وهجمنا على “الڤيرنيساجات” كي نأكل ونشرب مجانا، ايام كانت الجيوب فارغة والرؤوس ملأى عن اخرها بالأوهام…

كنا وقتها ندرس في “المعهد”، ونحلم بان نلعب ادوارا في مسلسلات مشابهة ل”سرب الحمام”. نقضي وقتنا بين الطابق الرابع من مسرح محمد الخامس وقصبة الاوداية و”المثلث الأحمر”، المقهى الذي كان يجمع الفنانين والكتاب والصحافيين والمخبرين في تلك التسعينيات الملتبسة، قبل ان يتحول الى محل لصنع النظارات، بعد ان أصيب المشهد الفني بالحوَل. هناك، في “المثلث الأحمر”، كان يجلس حمادي، وكان كثير منا يمشي بخطوات حثيثة في اتجاه الخسارة دون أن يجد من يقول له: “راك غادي فالخسران آحمادي!”

رحم الله الفنان نور الدين بكر.

* عنوان الديوان الثاني للشاعر الراحل أحمد بركات (1960-1994)

اترك تعليقا