لقد أعادت شبكات التواصل الاجتماعي اليوم تشكيل هوية الحركات الاحتجاجية في المغرب، سواء من حيث طبيعة التعبئة أو أساليب التأطير وطرق الانتشار. في الشبكات الرقمية، لم تعد الاحتجاجات تعتمد على الهياكل التقليدية؛ كالنقابات أو الجمعيات أو التنسيقيات والإطارات الحقوقية، بل أصبحت تنشأ وتتوسع من خلال حركات شبكية لامركزية، حيث يكفي فيديو أو منشور أو وسم حتى يفتح المجال أمام موجة من التفاعل قد تتحول في ساعات إلى دعوة للاحتجاج الميداني.
دعونا هنا نميز بين مفهومين الحركة الاجتماعية والحركة الاجتماعية، فالأخيرة هي حركة طويلة الأمد وعادة هي المستعملة في علم الاجتماع لدراسات الحركات والانتفاضات. غير أن الاحتجاج كفعل يضم ثلاث فئات، وهنا نتجه عن عبد الرحمان رشيق من خلال كتابه “المجتمع ضد الدولة، الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب” الذي اعتبر الاحتجاج الاجتماعي يضم ثلاث فئات متمايزة: الانتفاضة والحركة الاجتماعية والحركات الاجتماعية الجديدة. فالأولى تتميز بالعفوية وسرعة الزوال، أما الثانية، فتهدف إلى الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية لفئة أو فئات اجتماعية، بينما الثالثة تسعى إلى الدفاع والارتقاء بالقيم السائدة أو وضعها موضع سؤال.
بالعودة لتحول الاحتجاج من الميدان إلى الشبكة وبروز احتجاجات رقمية جديدة تخرج للواقع يحدث تحول جوهري. هذا الأخير ينسجم مع ما أشار إليه مانويل كاستلز في كتابه “شبكات الغضب والأمل”، من المجتمع إلى الشبكة، وهنا إعادة لبراديغمات جديدة تؤسس لمجتمعات رقمية، غير أن داخل هاته الشبكات يصبح الانخراط فردياً وشخصياً أكثر من كونه جماعياً أو تنظيمياً. وهو ما يفسر أن الحركات الاحتجاجية الرقمية تكون أوسع انتشاراً لكنها أضعف من حيث التنظيم المؤسساتي على المدى البعيد.
يمكن استحضار حركة 20 فبراير التي انطلقت أساساً من دعوات على فيسبوك، وحراك الريف الذي أشعل فتيله شريط فيديو في الوسائط الرقمية، مما خلق سرديات قوية حول الظلم الاجتماعي والاقتصادي ليُخرج حراكاً قويا للعلن وقيادة قوية واحتجاجات غير مسبوقة. هنا يمكن لصورة واحدة أو فيديو قصير أن يشكل إطاراً رمزياً قادراً على شحن الرأي العام وتوجيهه نحو مطلب سياسي محدد.
وسائل التواصل الاجتماعي هنا لعبت أدواراً أساسية: فهي وسيلة للتعبئة السريعة، وأداة لصياغة الرموز والشعارات المشتركة، ومنبر للتوثيق والفضح، كما أنها تتيح للناشطين تجاوز الرقابة التقليدية. غير أن هذه الوظائف نفسها تكشف هشاشة واضحة، إذ أن سرعة التعبئة لا تعني دائماً بناء بدائل سياسية متماسكة، كما أن الاعتماد الكبير على الخوارزميات يؤدي إلى حصر الخطاب داخل “فقاعات رقمية” تعيق بناء تحالفات اجتماعية واسعة.
كما أن الفضاء العام بدوره تحول من منبر نقاش عقلاني كما تحدث عنه هابرماس، إلى فضاء رقمي متعدد المستويات: فيه النقاش، والصورة، والانفعال، والهاشتاغ. لكن هذه العمومية الرقمية ليست محايدة، بل تخضع لقواعد السوق والإعلانات والخوارزميات، وهو ما يجعلها مجالاً مفتوحاً للتضليل والدعاية بقدر ما هي أداة للحرية والتعبئة.
في المقابل لم تبقَ الدولة مكتوفة الأيدي أمام هذه التحولات؛ إذ طورت أساليب للرصد والمراقبة وحجب المحتوى أحياناً، كما حدث مع بعض الصفحات في فترات الحراك، إضافة إلى الملاحقات القانونية لبعض الناشطين. وهنا نتحدث عن “الرقمنة القمعية”، أي أن نفس الأدوات التي تتيح التعبئة يمكن أن تتحول إلى أدوات للرصد والسيطرة.
أعتقد أن الاحتجاج الأكثر فعالية هو الذي يجمع بين الرقمي والميداني، أي أن الدعوات الافتراضية لا تكتمل إلا بترجمتها إلى أشكال حضورية: مسيرات، اعتصامات، مقاطعات، أو ضغط عبر المؤسسات. فالرقمي يمنح الزخم والانتشار، لكن الميدان يعطي المصداقية ويجبر الفاعلين السياسيين على التفاعل.
إن البيئة الرقمية متسمة بالسرعة، يظل الأفق فيها مفتوحاً لكن مشروطاً. هناك إمكانية لبروز حركات جديدة يقودها شباب الجيل الرقمي حول قضايا معيشية واقتصادية وخدماتية، أكثر من القضايا الكبرى المتعلقة بالإصلاح السياسي والانفراج الحقوقي والنقابي. غير أن نجاح هذه الحركات يتوقف على قدرتها على بناء تحالفات محلية، وعلى تطوير سرديات مستمرة، وعلى إيجاد قنوات للترجمة المؤسساتية لمطالبها.
بإمكاننا اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مختبراً لإعادة تشكيل الاحتجاج في المغرب: فهي تمنحه قوة التعبئة والانتشار، لكنها في الوقت نفسه تعرّيه من التنظيم المستدام، وتضعه تحت رحمة الخوارزميات وأدوات الرقابة. هنا يمكن القول: الأفق إذن قائم، لكنه يظل متناوباً بين لحظات من الزخم اللحظي وبين إمكانية التحول إلى قوة تغييرية فعلية إن وُجدت استراتيجيات تجمع بين الفضاء الرقمي والفضاء العمومي المادي، وتوازن بين سرعة الشبكات وعمق التنظيم الاجتماعي.
وسائل التواصل الاجتماعي اليوم لا يجب أن تُقرأ فقط كوسائط تقنية محايدة، بل كجزء من البنية الفوقية التي تعكس وتعيد إنتاج التناقضات القائمة في البنية التحتية. فالرأسمالية الرقمية، بما هي نمط جديد من تراكم القيمة، تخلق فضاءً افتراضياً يبدو في ظاهره حراً ومفتوحاً، لكنه في العمق خاضع لقوانين السوق والخوارزميات وآليات المراقبة، أي أنه يعيد إنتاج الهيمنة الطبقية في شكل جديد.
هنا يمكن استحضار ألتوسير حين تحدث عن “الأجهزة الإيديولوجية للدولة”: فالمنصات الرقمية، رغم طابعها العابر للحدود، تؤدي وظيفة مزدوجة؛ فمن جهة تتيح للطبقات المُهيمنِ عليها التعبير عن سخطها وتجميع قواها، ومن جهة أخرى تتحول إلى جهاز إيديولوجي يُعيد دمج هذا السخط في منطق الاستهلاك والتفريغ الرمزي.
إذا استحضرنا تصور ألتوسير واسقطناه بغية فهم علاقة الحركات الاحتجاجية بالفضاء الشبكي في الحالة المغربية، فإن المدخل الوحيد هو أطروحته حول الأجهزة الإيديولوجية للدولة مقابل الأجهزة القمعية للدولة. فألتوسير يرى أن الدولة لا تقوم فقط على العنف المادي المباشر، بل من خلال شبكة من الأجهزة التي تضخ الإيديولوجيا في الأفراد: “المدرسة، الجامعة، الإعلام، النقابة”. وحتى الفضاء الرقمي الذي يمكن أن يُفهم اليوم كجهاز إيديولوجي جديد. وظيفة هذه الأجهزة هي إعادة إنتاج علاقات الإنتاج عبر خلق وعي مطبوع بقيم معينة (الفردانية، الاستهلاك، الطاعة، الاستثمار في الذات بدل الانخراط في النضال الجماعي).
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تُقرأ كأدوات محايدة للتحرر، بل كفضاءات يتم من خلالها إعادة صياغة الوعي الاحتجاجي. فخطابات “الفرص الفردية”، “الاستثمار الصغير”، “الترقي عبر المبادرة الذاتية” كلها مضامين إيديولوجية تُضَخ يومياً في الفضاء الرقمي وتُفرغ الفعل النضالي من مضمونه الكفاحي، بحيث يُحوَّل الغضب الاجتماعي إلى تنفيس لحظي أو استهلاك رمزي للصور والشعارات.
غير أن ما وقع في المغرب مع بعض الحركات الاحتجاجية الرقمية والشبابية (من 20 فبراير إلى حراك الريف، إلى احتجاجات جوازات التلقيح وغيرها وصولا لموجات السخط الأخيرة) يُظهر أن هذه الأجهزة لم تنجح دائماً في ترويض الأفراد. فمتى رفض الشباب الانصياع للإيديولوجيا السائدة وخرجوا عن الخطاب المهيمن، تدخلت الأجهزة القمعية للدولة (الشرطة، القضاء، السجون، الرقابة الرقمية) لإرجاعهم إلى “الطريق”. وهذا ما يؤكد الأطروحة الألتوسيرية: الإيديولوجيا أولاً، والقمع ثانياً حين تفشل الإيديولوجيا.
بهذا المعنى، الفضاء الرقمي المغربي ليس فضاءً للحرية المطلقة، بل جزء من بنية إيديولوجية أشمل، تُعيد إنتاج نفس علاقات السلطة والهيمنة، وأحيانا سلطة شبكية وهيمنة رقمية. لكنه في الآن نفسه يكشف تناقضاً ديالكتيكياً: فبينما يُراد له أن يكون أداة للتطبيع الإيديولوجي، يمكن أن يتحول إلى أداة مقاومة، غير أن لحظة المقاومة هذه تكشف حدود الإيديولوجيا وتستدعي القمع. وهذا ما يجعل كل فعل احتجاجي رقمي في المغرب محكوماً بهيمنة مزدوجة: هيمنة إيديولوجية ناعمة وهيمنة قمعية صلبة.
هنا تكمن مفارقة أساسية يجب أن أشير إليها وهي أن الفضاء الرقمي الذي رُوِّج له كمتنفس وهمي وآمن للاحتجاج، لم يبقَ حبيس الشاشات، بل انفجر في الواقع المادي وأعاد تشكيل الفضاء العام. فالدولة انسجاماً مع أطروحة ألتوسير حول الأجهزة الإيديولوجية تعاملت مع الوسائط الرقمية بوصفها مجرد آلية لإعادة إنتاج الطاعة عبر خطاب التفريغ الرمزي.
لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن هذا التفريغ تحوّل إلى شحن جماعي للطاقة الغاضبة. هنا يتجلى التناقض: ما بُني ليكون قيداً وهمياً أفرز إمكانية جديدة للتحرر الواقعي. فالاحتجاج الرقمي، في سياقه المغربي، لم يتوقف عند حدود الافتراضي كما كان متوقعاً، بل مثّل قاعدة لتجسيد الفعل في الشارع، كاشفاً أن المجال الرقمي ليس سوى امتداد للصراع الطبقي، وأن كل محاولة لحصره في بُعد رمزي سرعان ما تُفجِّر نقيضها في الواقع المادي عبر أشكال جديدة من التمرد والمقاومة.
اليوم صار الاحتجاج الرقمي محطة كشفت التناقض بين البنية الاقتصادية التي تولد التهميش والبطالة والفوارق الاجتماعية، وبين البنية الفوقية التي تعد بالحرية والانفتاح، وإن كانت في بعض الأحيان تحاصر الفعل الاحتجاجي داخل دوائر الرمز والصورة. لذلك، فالرهان يظل هو كيف يمكن تحويل هذه الطاقة الرقمية إلى قوة مادية منظمة، أي إلى تعبير عن صراع طبقي فعلي قادر على زعزعة علاقات الإنتاج المهيمنة بدل الاكتفاء بدورة انفعالية تنتهي إلى إعادة إنتاج نفس الوضع القائم.
تتجه سرديات عديدة إلى أن المجتمع الرقمي يُقدَّم في الخطاب السائد كفضاء بديل للحرية والمشاركة والتعبير، حيث يلتقي الأفراد ويتفاعلون بعيداً عن رقابة الدولة المباشرة. غير أن هذا الفضاء في عمقه لا يغدو أن يكون مجرد وهم للحرية، إذ يخضع لقواعد السوق والمنصات التجارية التي تحدد شروط الظهور والانتشار، وتعيد إنتاج علاقات الهيمنة في شكل رقمي ناعم.
غير أن تتبع مسار الحركات الاحتجاجية في المغرب عبر وسائط التواصل الاجتماعي يكشف لنا أن ما يبدو فضاءً جديداً للحرية ومتنفسا معزولا ليس إلا ساحة أخرى من ساحات الصراع الطبقي وإن كان افتراضيا في شروط معولمة ورقمية. فالرأسمالية الرقمية لا تمنح أدوات للتعبير فحسب، بل تضع في الآن نفسه حدود هذا التعبير ضمن منطق السوق والخوارزمية والرقابة.
هنا نجد أنفسنا أمام تناقضين (رئيسي وثانوي): الوسيلة التي تتيح للطبقات المقهورة صوتاً هي نفسها التي تُعيد دمج هذا الصوت داخل دوائر الوهم الإيديولوجي، حيث يُختزل الاحتجاج في صورة عابرة أو وسم متداول. لذلك، فالرهان ليس في تقديس الفضاء الرقمي بوصفه مجتمعا شبكيا بديلا عن الواقع، بل في إدراك أنه مجال صراع يجب أن يُستثمر لا أن يُستسلم لقواعده، بمعزل عن الواقع الذي نعيشه.
التحرر لا ينبع من التدوين أو الضغط الشبكي وحده، أو الحملات الرقمية وحدها، وإنما من تحويل هذه الطاقات المتفرقة إلى قوة مادية منظَّمة (وهنا التركيز على التنظيم أمر أساسي من لا تنظيم له، لا قوة له)، القوى المادية تدخل في سيرورة الصراع الطبقي وتستهدف قلب علاقات الإنتاج التي تولد التهميش والاقصاء واللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية.
بهذا المعنى، يبقى المستقبل رهينا بواقع الحال ومفتوحاً على مفارقين: إما إعادة إنتاج نفس النظام في صورة أكثر عصرية ورقمية، أو تجاوز هذا الوهم عبر بناء جدلية جديدة تربط بين الرمزي والمادي، بين الافتراضي والواقعي، بين الغضب الرقمي والممارسة الاحتجاجية الملموسة.