لمن أكتب؟ ولِمَ سأكتب أساسًا؟ سؤالان يثقلان رأسي كلما هممت بوضع أصابعي على لوحة المفاتيح أو حملت القلم بين أناملي.
كان الأمر يومًا ما شغفًا مُتْقَدًا، حاجة داخلية تشبه التنفس، وسيلة لفهم العالم والتفاعل معه. لكنه تحول الآن إلى عبء، ثقل يتراكم فوق صدري، كأن الكتابة لم تعد ملاذًا بل سجنًا من الأسئلة المعلقة بلا إجابة.
في زمن مضى، كنت أجد في هذا الفضاء متسعًا للبوح، مساحة لتقاسم الأفكار والرؤى، لتصوير ما يدور في الأذهان من تساؤلات وما يعترك في الصدر من انفعالات، أنتقد، أتضامن أسخر. كنت أكتب لأن الكتابة فعل حياة، ولأن الكلمات نافذة تطل منها الروح على اتساع العالم وضجيجه. أما الآن، فقد غدت الكتابة أشبه بصدى يرتد إليّ، يتكرر داخلي حتى يختنق في الفراغ، حتى أعود إلى نقطة البداية وأتساءل من جديد: لماذا؟
كلما انفجرت قضية على السطح، في الصحافة أو السياسة أو الثقافة وغيرها، أجد نفسي أبحث وأقرأ، أحاول أن أضعها تحت المجهر، أن أفهم أبعادها وخلفياتها. ثم، كما لو أنني وقفت فجأة أمام مرآة تعكس خواءً داخليًا، يأتيني السؤال القاتل: “ما الجدوى؟”
هل سأغير شيئًا؟ لا.
هل سيهتم أحد؟ لا أعتقد.
ما العمل إذن؟ لا شيء.
الصمت هو الجواب الوحيد.
وحين يسود الصمت، لا يصبح مجرد غياب للكلمات، بل يتحوّل إلى عزلة مقصودة، انسحاب طوعي من المعركة التي لم أعد أرى فيها نفسي منتصرًا أو مهزومًا. أكتفي بالمراقبة من بعيد، متكئًا على جدار العزلة، أتابع المشاهد تتكرر، نفس الخطابات، نفس الوجوه، نفس القضايا التي تنفجر فجأة ثم تخبو دون أثر يُذكر. أتساءل: هل كنتُ ساذجًا حين ظننت أن الكلمات تصنع فرقًا؟
حينها، لا أجد بدًا من العودة إلى صومعتي الخاصة، إلى عزلتي ومنفايَ الاختياري، إلى تلك الضريح أو الزاوية المظلمة التي لا يطرقها أحد، حيث لا ضجيج، لا جدل، لا وهمٌ بالتأثير أو التغيير. فقط، سكون بارد، وصوت داخلي خافت يسألني:
هل سيعود الشغف يومًا؟
لا أدري.
صار الثقل يطال كل شيء، يزحف ببطء كظل ثقيل لا يفارقني، حتى في التضامن، حتى في رفع الصوت من أجل الحق، حتى في فلسطين، في حقوق الإنسان، في قضايا الهامش، في الوقوف مع أبناء الوطن، في الصراخ ضد الظلم.
كم مرة كتبنا؟ كم مرة أعلنا تضامننا؟ كم مرة وقفنا ضد الظلام، حاولنا أن نضيء ولو شمعة في عتمة لا تنقشع؟ كم مرة رفعنا أصواتنا حتى بحّ الحلق، ثم عدنا أدراجنا، نجرّ خيبتنا خلفنا كمن يعود من معركة خاسرة؟ في كل مرة نكتب، نحتج، نصرخ، ثم ماذا؟ لا شيء يتغير. الكلمات تمضي في الفراغ، تضيع كنداء يتبدد في مهب الريح، كطقس نؤديه بلا يقين، بلا أثر، بلا رجع صدى.
حتى الصحافة التي كانت يومًا وطنا، صارت منفى. لم تعد شغفًا، لم تعد خلاصًا، لم تعد فسحة للحلم أو مساحة للبوح، بل صارت عبئًا يثقل الروح، مهمة شاقة تحتاج إلى إرادة تقاوم الخيبة والتكرار والتآكل البطيء للأمل. صارت الكلمات تستعصي، تتمنع، تتثاقل، كأنها حجارة تُنتزع من صدر موجوع، لا ماء فيه ولا حياة. هل مات الشغف؟ هل جف الحبر؟ هل تكلست اليد التي كانت تكتب بحرارة وشغف؟ هل انتهى كل شيء؟
بل حتى هذا النص المؤقت، جئت إليه متعبًا، جررته من بين أنقاض الصمت، كتبته بمشقة الأنفاس، بعد صراع مرير مع الفراغ، بعد محاولات يائسة لاستعادة صوتي، لأطوّع القلم من جديد. لكن الكتابة لم تعد سهلة، لم تعد تهطل كما كانت، صارت كالغرق في رمل متحرك، كلما حاولت أن أتحرر منها، ازدادت التصاقًا بي، وكلما حاولت أن أكتب، ازددت صمتًا.