Banner Post

الرحلة الخضراء: عبور الكونغو..بين المحن والانتصارات

الفصل التاسع

حين دخلت قافلة الرحلة الخضراء إلى برازافيل، كانت المدينة تعج بالحركة والفوضى المعتادة في العواصم الإفريقية. الشوارع المزدحمة، الأسواق الصاخبة، والروائح المتناثرة في الهواء، كلها ذكّرت الفريق بأنهم في قلب إفريقيا. لكن العقبات التي واجهوها في الأيام التالية كانت أصعب مما تخيلوا.

كان الفريق يخطط لصيانة السيارات الصغيرة وتغيير الإطارات المتهالكة، لكن شحنة الإطارات القادمة من فرنسا لم تصل بعد، وظلّت عالقة بين أروقة الجمارك دون تفسير واضح. وما زاد الأمور تعقيدا أن عبور نهر الكونغو لم يكن مجرد خطوة عادية على الخريطة. لم تكن هناك عبّارة رسمية تربط بين برازافيل وكينشاسا، مما اضطر الفريق إلى اتخاذ خيار صعب: استئجار بارجة ضخمة ورافعة عملاقة لنقل السيارات عبر النهر، وهي عملية محفوفة بالمخاطر اللوجستية، خاصة مع هدير مياه الكونغو الذي بدا وكأنه يحذّرهم من التحدي القادم.

وسط كل هذه الصعوبات، تعرض قائد الرحلة، إريك فيغورو، لوعكة صحية شديدة جعلته طريح الفراش لثلاثة أيام. تجاوزت حرارته 39 درجة مئوية، مما استنزف قواه، لكنه ظل متشبثا بروح الفريق والمسؤولية الملقاة على عاتقه، لأن هذه الرحلة لم تكن مجرد مغامرة شخصية، بل كانت رسالة أمل للعالم.

ورغم الظروف الصعبة، لم يكن الفريق معزولا عن المجتمع المحيط به. فقد تلقوا دعوة من السفيرة الفرنسية لحضور حفل استقبال رسمي، حيث وجدوا بعض العزاء في الأجواء الودية والضيافة الدبلوماسية. خلال الحفل، تحدث إريك مع سيدة كونغولية عبّرت عن أهمية الرحلة بالنسبة لشباب إفريقيا. كلماتها لمست قلبه، وذكّرته بأن هذه الرحلة تتجاوز حدود الجغرافيا، فهي رسالة تغيير ومستقبل مستدام.

العبور العظيم: تحدي النهر بين ضفتين

بعد أسبوع من التأخير، بدأ الفريق أخيرا عملية العبور إلى كينشاسا. في مشهد مهيب، رُفعت السيارات الصغيرة بواسطة رافعة عملاقة، ثم وُضعت بعناية على متن البارجة التي ستشق طريقها عبر مياه الكونغو العاتية. كانت لحظات مشحونة بالتوتر، لكن فور وصولهم إلى الضفة الأخرى، كانت بانتظارهم مفاجأة غير متوقعة.

استقبلهم ممثلون من وزارة السياحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية بترحيب رسمي حافل. فُرشت الأرضية بلافتات تحمل شعار الرحلة الخضراء، وارتدى بعض الحاضرين قمصانًا تحمل اسم الفريق، بينما عزفت فرقة فلكلورية إيقاعات تقليدية جعلت الجميع ينسون للحظات المصاعب التي واجهوها. حتى عمال الميناء، الذين اعتادوا على السفن والبضائع، وقفوا مشدوهين أمام هذا المشهد غير المألوف.

كان هذا الاستقبال لحظة فارقة، تجسيدا لانتصار الإرادة على التحديات. الفريق، رغم إنهاكه بعد أيام من المحن والعقبات، شعر أن كل الجهود والتضحيات كانت تستحق هذه اللحظة من الفرح والانتصار.

وداعًا ليونارد: وداع مؤثر وبداية جديدة

كان لا بد من وداع شخص أصبح جزءًا من الفريق خلال الأيام الماضية: ليونارد، الشاب الكونغولي الذي انضم إليهم بشكل غير متوقع لكنه لعب دورا أساسيا في تسهيل إقامتهم في برازافيل وكينشاسا.

قبل أسابيع، كان إريك بحاجة إلى يد تساعده خلال فترة مرضه، فجاء ليونارد كهدية من السماء. بتفانٍ ملحوظ، ساعدهم في الإجراءات الإدارية، وقاد إحدى السيارات الصغيرة حتى الحدود الأنغولية، حيث سلَّمها إلى شاب أنغولي سينضم إلى الفريق في المرحلة القادمة.

كان وداع ليونارد لحظة مؤثرة، لكنه لم يكن الشخص الإفريقي الوحيد الذي دعم الرحلة الخضراء. فمنذ انطلاقها من المغرب، انضم إلى الفريق أربعة شبان أفارقة قدّموا مساعدات لا تُقدّر بثمن: كمال من المغرب، الذي التحق بالفريق في محطة طانطان، بابا من السنغال، ليونارد من الكونغو، وكريستيانو من أنغولا. لم يكونوا مجرد مساعدين، بل أصبحوا جزءًا من روح الرحلة، ورمزا للعطاء الإفريقي الذي يتجاوز الحدود والثقافات.

لحظة استراحة في لواندا

بعد تحديات الكونغو، كان الدخول إلى أنغولا بمثابة استراحة مُرحَّب بها. في العاصمة لواندا، كان في انتظار الفريق استقبال دافئ من السفارة الفرنسية والمدرسة الفرنسية في لواندا.

“كان يومًا رائعًا من التبادل في المدرسة الفرنسية في لواندا!” كتب إريك في تدوينته، معبّرًا عن سعادته بهذه المحطة المختلفة في الرحلة. “حظينا باستقبال حار منذ لحظة وصولنا، حيث نظمت السفارة لقاءات مع طلاب المدرسة الفرنسية، تلاها حفل استقبال تعرّفنا فيه على أفراد من الجالية الفرنسية في أنغولا.”

خلال الزيارة، التقى الفريق بجميع فصول المدرسة في جلسات تفاعلية، حيث قدّموا مغامرتهم وشرحوا رؤيتهم حول التنقل المستدام وحماية البيئة. لم يكن الحديث نظريًا فقط، فقد أتيحت لهم الفرصة لتركيب الألواح الشمسية الخاصة بسياراتهم على أرضية الملعب الرياضي، مما جعل التقنية التي يعتمدون عليها ملموسة أكثر للطلاب، وفي الوقت نفسه، تمكنوا من إعادة شحن بطارياتهم بالطاقة الشمسية، في لحظة رمزية توضّح جوهر هذه الرحلة.

إلى المحطة التالية..بروح لا تُقهر..!

مع دخولهم أنغولا، كان الفريق قد عبر 13 دولة من أصل 16 في رحلته الطويلة عبر القارة الإفريقية. خلفهم، تركوا أيامًا عصيبة في الكونغو، لكنها لم تكن مجرد عقبات، بل دروس وتجارب ستبقى محفورة في ذاكرتهم.

الآن، ينظرون إلى الأمام، إلى الطرق المجهولة التي تنتظرهم، وإلى التحديات التي سيواجهونها في المحطات القادمة. لكنهم يحملون معهم شيئًا أثمن من أي تقنية أو مركبة كهربائية: روح الفريق، والإصرار الذي لا ينكسر، والإيمان بأن المستحيل ليس إلا عقبة أخرى..قابلة للتجاوز.

الرحلة الخضراء: أكثر من مجرد مغامرة

هذه الرحلة لم تكن فقط اختبارًا للقدرة على التحمل أو تجربة للتنقل المستدام، بل كانت رسالة إلى العالم: يمكننا بناء مستقبل أكثر اخضرارًا، ويمكن للإرادة الجماعية أن تتجاوز أي عقبة، وأن تتحول المغامرة إلى إلهام حقيقي للأجيال القادمة.

وكما قال الكاتب الفرنسي الشهير صاحب رواية “الأمير الصغير” أنطوان دو سانت إكزوبيري: “ما يجعل الصحراء جميلة هو أنها تخفي بئرًا في مكان ما.”

الرحلة الخضراء كانت وستبقى أكثر من مجرد طريق..كانت بحثًا عن ذلك “البئر” المخفي في مستقبل أكثر استدامة، وأملًا ينبض في قلب إفريقيا والعالم.

نقطة بريس

 

اترك تعليقا