بينما كانت “الرحلة الخضراء” تتوغل في قلب السنغال، احتفت الطبيعة بفريق إريك فيغورو بمناظر مهيبة للسافانا الإفريقية، حيث اصطفت أشجار الباوباب الضخمة كحراس قدامى يسردون تاريخ المكان، لم تكن هذه المشاهد مجرد خلفية، بل امتدادا لروح المغامرة التي أعادت إحياء إرث “الرحلة السوداء” التي قادها أندريه سيتروين قبل قرن من الزمن، وعلى الرغم من مرور مئة عام، فإن روح التحدي والابتكار التي أضاءت تلك الرحلة التاريخية لا تزال حية في هذه القافلة الشمسية، التي تُعيد كتابة التاريخ ولكن برؤية خضراء ومستدامة.
وما يزيد هذه الأشجار هيبة، هو الأسطورة السنغالية التي تجعل من الباوباب رمزا للحياة والتاريخ، حيث يعتقد السكان أن أرواح الأجداد تسكنها، وأنها مصدر للبركة والإلهام، فمنذ ولادة الطفل، يقوم والده بغسله بماء الباوباب، في طقس يهدف إلى جلب الحماية والقوة، وهو تقليد يجسد الاحترام العميق الذي يكنه الشعب لهذه الشجرة التي يعتبرونها مباركة من الله.
مخيم السافانا..حفاوة سنغالية وأمسيات لا تُنسى
وصل الفريق إلى ضواحي قرية صغيرة محاطة بالباوباب، حيث اكتشف “أليكس”، أحد أعضاء الفريق، موقعا مثاليا لإقامة المخيم، بجوار ملعب كرة قدم متواضع بدا وكأنه لوحة مرسومة خصيصا لهذه اللحظة.
عندما توقفت السيارات الكهربائية الصغيرة، تجمّع السكان المحليون بدهشة حول الفريق، تملؤهم الحماسة لمعرفة المزيد عن هذه المركبات التي تبدو كأنها قادمة من المستقبل، وبعد تبادل التحيات الأولى، دعا إريك أهالي القرية لقضاء المساء معهم، ولم يتردد القرويون في قبول الدعوة، بل تجاوزوا ذلك، فعادوا بعربات صغيرة تجرّها الحمير محملة بالخضروات والمواد الغذائية، ليبدأ الجميع بتحضير وليمة تقليدية.
مع غروب الشمس، تحولت أجواء المخيم إلى مهرجان صغير، حيث اجتمع الكبار والصغار حول النار لتحضير طبق “الدجاج ياسا” الشهير. كانت تلك اللحظات أشبه بعودة إلى البدايات الأولى للإنسانية، حين اكتشف “الإنسان المنتصب” (الهومو إريكتوس) النار لأول مرة قبل آلاف السنين، فأصبحت رمزا للحياة والتعاون.
هذا المشهد وحده كاف لجعلك تتذوق مزيجا من التوابل الإفريقية، التي تضفي نسمات خاصة على نكهات الطعام، بينما تضج الموسيقى المحلية بألحان تعبر عن فرح اللحظة. الرقصات العفوية التي نشأت حول النار أذابت المسافات بين الثقافات المختلفة، وأحالت المخيم إلى لوحة نابضة بالحياة، حيث اندمج الجميع في احتفال فطري يعيد إحياء جوهر الإنسانية الأول.
استمرت الأمسية حتى ساعة متأخرة من الليل، تاركة في قلوب الجميع ذكريات دافئة لا تُنسى، وكأن شعلة النار تلك حملت معهم إرث الأجداد الذين استأنسوا الطبيعة وحوّلوها إلى مصدر للدفء والتواصل.
مع بزوغ الفجر، استيقظ الفريق على ضوء الشمس الدافئ. بعد تناول وجبة إفطار بسيطة وسريعة، هرع الجميع لتركيب الألواح الشمسية، التي ستُعيد شحن بطاريات السيارات الصغيرة استعدادا للمرحلة التالية من الرحلة، وبينما كانت الشمس تمدهم بالطاقة، بدا أن الطبيعة نفسها تمدهم بالشجاعة والإصرار على مواصلة رحلتهم.
“بابا”.. بطل في الظل
خلال رحلتهم عبر السنغال، واجه الفريق تحديا تقنيا عندما تعرض ذراع التعليق الخلفي لإحدى السيارات للتلف بسبب حفرة عميقة في ظلام الليل. في صباح اليوم التالي، توجهوا إلى ورشة صغيرة في ضواحي تامباكوندا، حيث استقبلهم الشاب المحلي “بابا” بحفاوة وروح إيجابية مفعمة بالاستعداد للمساعدة.
في تلك الورشة المتواضعة، شرع “بابا” وفريقه من الميكانيكيين المهرة في العمل بتفانٍ وإبداع، مستعينين بأدوات بسيطة ولكن بكفاءة عالية، وبجهود جماعية استمرت لساعات، أعادوا السيارة إلى حالتها الأصلية، ما أثار شعورا عميقا بالامتنان والارتياح لدى الفريق.
كانت هذه التجربة بمثابة دفعة معنوية كبيرة عززت قناعة إريك بصواب قرارهم بخوض الرحلة دون فريق دعم تقني، فقد أتاحت لهم هذه المغامرة فرصة لعيش لحظات إنسانية مؤثرة وبناء روابط قوية مع السكان المحليين، الذين تركوا بصمة دائمة في ذاكرتهم.
ومع عبورهم الأراضي السنغالية، أدرك الفريق أنهم لم يكونوا فقط في رحلة بيئية مبتكرة، بل في مغامرة إنسانية تُبرز الجوانب الجميلة للتعاون والتضامن. بين كل تحدٍ جديد ولحظة لقاء، كانت “الرحلة الخضراء” تؤكد أن الابتكار يمكن أن يتناغم مع الطبيعة، وأن الأمل في مستقبل أخضر لا يتطلب سوى شجاعة الإرادة ورؤية مستدامة.
تستمر “الرحلة الخضراء” لتفتح آفاقا جديدة، مجسدةً إمكانات الطاقات النظيفة في تغيير الواقع، ومن أعماق السنغال، حيث تتعانق السافانا مع أحلام الفريق، تتواصل هذه المغامرة الرائدة نحو هدفها النهائي، لتُذكّر العالم بأن المستحيل ليس سوى فكرة تتلاشى أمام الإصرار والطموح.