Top

ذكرى رحيل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد..المثقف الذي قاوم بالسرد والنقد

تحل اليوم، الخامس والعشرون من شتنبر، الذكرى الثانية والعشرون لرحيل المفكر والأكاديمي الفلسطيني الأمريكي الدكتور إدوارد سعيد، أحد أبرز الأسماء الفكرية في العالم المعاصر، وصوتا عالميا للثقافة والعدالة، الذي غيّبه الموت في نيويورك سنة 2003 عن عمر ناهز 67 عاما بعد صراع مع مرض اللوكيميا.

وُلد سعيد في القدس في الأول من نونبر 1935، وتلقى تعليمه الأولي في كلية فكتوريا بالقاهرة قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة حيث حصل على البكالوريوس من جامعة برنستون عام 1957، فالماجستير عام 1960، ثم الدكتوراه من جامعة هارفرد عام 1964. قضى معظم حياته الأكاديمية أستاذا للأدب الإنجليزي والأدب المقارن بجامعة كولومبيا، كما درّس كأستاذ زائر في أرقى الجامعات العالمية مثل هارفرد وييل وجونز هوبكنز. وإلى جانب إتقانه العربية والإنجليزية والفرنسية، ألمّ بعدد من اللغات الأخرى بينها الألمانية والإيطالية والإسبانية.

عرف سعيد بإسهاماته العميقة التي تجاوزت حدود النقد الأدبي إلى ميادين الفكر السياسي والثقافة والموسيقى. ويظل كتابه الأشهر “الاستشراق” (1978) علامة فارقة في الدراسات النقدية الحديثة، إذ أسس من خلاله لما يعرف اليوم بدراسات ما بعد الكولونيالية، مبرزا كيف ارتبطت المعرفة بالسلطة في تشكيل صورة “الشرق” في المخيال الغربي. لم يكن مشروعه الأكاديمي مجرد دراسة للأدب أو التاريخ، بل كان محاولة لفتح النصوص والتواريخ على ما أسماه “القراءة الطباقية”، أي الاستماع إلى الروايات المهمشة والمقموعَة جنبا إلى جنب مع الرواية السائدة، وهي أداة تحليلية منحها للباحثين والقراء على حد سواء.

شكل المنفى والهوية الممزقة ثنائية حاضرة في مسيرته وحساسيته الفكرية، فقد ظل يعتبر نفسه “خارج المكان”، سواء كفلسطيني في الغرب أو كغربي في العالم العربي. هذا الشعور المتعدد بالانتماء غذّى نظرته النقدية الرافضة لفكرة النقاء الثقافي أو الاصطفافات الهوياتية الضيقة، ودفعه إلى الدفاع عن التداخل الثقافي وثراء التعددية. ومن هذا المنطلق صاغ رؤيته لدور المثقف باعتباره صوتا للحقيقة، مستقلا عن السلطات السياسية والاقتصادية، وملتزما بمواجهة السرديات الأحادية ومقاومة التبريرات الجاهزة للهيمنة والظلم.

ترك سعيد وراءه رصيدا فكريا وأدبيا غنيا، من أبرز كتبه: “بدايات: القصد والمنهج”، “العالم والنص والناقد”، “الثقافة والإمبريالية”، “تمثيل المثقف”، “تغطية الإسلام”، و”خارج المكان” وهي سيرته الذاتية التي حازت جوائز دولية. كما ألف كتبا في الموسيقى والسياسة والفكر النقدي، مجسدا شخصية المفكر الموسوعي القادر على العبور بين الحقول المعرفية المختلفة.

سياسيا، لم يتوقف سعيد عن الدفاع عن القضية الفلسطينية، حيث كان من أبرز المنتقدين لاتفاقيات أوسلو، معتبرا إياها صفقة خاسرة للفلسطينيين. وساهم إلى جانب حيدر عبد الشافي ومصطفى البرغوثي في تأسيس “المبادرة الوطنية الفلسطينية” التي سعت إلى تعزيز الهوية الوطنية وتقديم صورة الفلسطيني القادر على تحمل مسؤولية دولته.

نال سعيد خلال مسيرته عددا من الجوائز المرموقة، منها جائزة لانان الأدبية عن مجمل إنجازاته، جائزة أمير أستورياس، جائزة سلطان العويس، وجائزة نيويورك لأفضل كتاب غير روائي عن سيرته “خارج المكان”. كما حصل على جوائز أكاديمية بارزة كجائزة ليونيل تريلينغ وجائزة ويليك، ليكرّس حضوره كأحد أعمدة الفكر الإنساني المعاصر.

بعد أكثر من عقدين على رحيله، ما زالت أفكار إدوارد سعيد تُستحضر في النقاشات الكبرى حول الاستعمار والثقافة والهوية، وفي “حرب السرديات” المتواصلة حول فلسطين. لقد كان نموذجا للمثقف الملتزم الذي جمع بين الصرامة الأكاديمية والجرأة النقدية، وظل صوته، حتى بعد رحيله، يذكّر العالم بأن الثقافة يمكن أن تكون ساحة مقاومة، وأن الكلمة قد تكون أبلغ من السلاح في مواجهة الظلم والاستلاب.

اترك تعليقا