تحقيقات

حرية التعبير بين التأصيل القانوني والممارسة الميدانية بجهة كلميم وادنون

قدرة الإنسان على أن يعلن عن الأفكار التي تجول في خاطره وعن قناعاته المختلفة التي يعتقد أن فيها مصلحته ومصلحة غيره من الأفراد إزاء أمر معين هي حرية التعبير بشكل عام، كما تعتبر حقا من الحقوق الأساسية للإنسان، إذ ترتبط بطائفة واسعة من الحقوق والحريات كحرية الصحافة، والفكر، والضمير، والوجدان، والمعتقد، والدين، والولوج إلى المعلومة، بل تشكل أحيانا شرطا للتمتع الكامل بهذه الحقوق، وتعد جزءا لا يتجزأ من التمتع بالحق في حرية التجمع وتكوين الجمعيات.

إن ممارسة هذا الحق بدون خوف أو تدخل غير قانوني، أمر أساسي للعيش في مجتمع منفتح ومنصف، يمكن للمرء أن يتداول فيه أفكاره وقناعاته اللازمة للإبداع والشفافية، والمجتمع الوادنوني بجهة كلميم وادنون واحد من هذه المجتمعات، الذي لايمكن عزله عن مايقع بالعالم.

الإطار المعياري الدولي لحرية التعبير

شكلت المواثيق الدولية، الأساس القانوني لحماية الحق في حرية التعبير مع مراعاة تحقيق التوازن، مابين ممارسة هذا الحق لبناء مجتمع ديمقراطي، وحماية أمن وإستقرار الدولة وسيادتها الداخلية. وتحقيقا لهذا التوازن أخذت هذه الجهود الدولية التعريف بالحق في ممارسة حرية التعبير باعتباره مقياسا ومؤشرا للشفافية والديمقراطية.

لذلك جاء نص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مؤكدا على أنه لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، وهو ما أكدته المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث نصت على أن لكل إنسان حق في إعتناق أراء دون مضايقة، وله الحق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق الحرية في إلتماس مختلف ضروب المعلومة والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الأخرين سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني، دون الإخلال بالقيود الهادفة إلى حماية حقوق الدولة والغير طبقا لما نص عليه القانون.

ولضمان المساواة في ممارسة هذا الحق، جاءت الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري سنة 1965، لتؤكد أن ممارسة حقوق وحريات الإنسان الأساسية تكون بتحقيق المساواة بين جميع البشر دون أدنى تمييز في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي عزز من حماية ممارسة حرية الرأي والتعبير دون النظر إلى من يمارسها، فلا يصح طبقا لنصوصها تمكين البعض منها ومنع آخرين لسبب يتعلق باللون أو العرق أو الأصل الإثني.

وقد سايرت المواثيق الإقليمية موقف الرأي العام الدولي من حرية الرأي والتعبير، كالميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي ضمن الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان في المادة 9 والإتفاقية الأمريكية لحماية حقوق الإنسان في المادة 13 على حق كل فرد في أن يعبر عن أفكاره وينشرها، ومايستلزمه ذلك الحق من الحصول على المعلومات على أن يكون ذلك تحت مظلة القوانين في إطار حفظ الأمن القومي وإحترام حقوق الأخرين وحرياتهم.

ولتعزيز ضمانات ممارسة هذا الحق مكنت المادة 10 من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على مستوى الدول الأعضاء، الأفراد العاديين في أوروبا من رفع دعاوى أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إذا ماتعرضوا لإنتهاك عند ممارستهم حقوقهم والتي من ضمنها الحق في حرية الرأي والتعبير.

حرية التعبير في التشريع الداخلي

عملت المملكة المغربية على تنزيل مضامين الإتفاقيات الدولية و الإقليمية، التي صادقت عليها كتنفيذ عملي بتعهداتها الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، سعيا منها للإنخراط الفعلي في المجتمع الدولي، وتحقيق مكاسب سياسية وإقتصادية وإجتماعية تساهم في بناء مجتمع يشارك أفراده بفعالية في كل مايتعلق بشؤونه، بالصورة التي تحمي المجتمع من الإضطرابات، وتعزز علاقة الفرد بالدولة التي يشعر فيها بإمكانية تعبيره عن رأيه بصورة مشروعة.

يشكل دستور 2011 أبهى صور إلتزام المملكة بتعهداتها، حيث نجده يتضمن في عدة فصول، مجموعة من الحقوق الاساسية بشكل مباشر أو غير مباشر، تكرس مفهوم الدولة الديمقراطية كإطار سياسي يعيش فيه مجتمع مغربي يتمتع بحرية الرأي و التعبير كحق ديمقراطي بامتياز، وخيارا لارجعة فيه، ولا يخضع للمراجعة، حيث السمو المشروط للإتفاقيات الدولية على التشريع الوطني.

اذ نص في الفصل 10 منه على حماية حق المعارضة في حرية الرأي والتعبير والإجتماع، أما الفصل 25 فعبر بشكل واضح على أن حرية التعبير حق دستوري لكل الأفراد، والفصل 27 أكد على الحق في الوصول إلى المعلومة وضمن الحريات للصحافة، كما نص الفصل 165 على إحترام حرية التعددية والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري عن طريق الهيئة العليا للإتصال السمعي البصري.

إلى جانب هذه الفصول التي تضمنها الدستور المغربي، هناك قوانين أسست لقواعد معيارية لتنظيم هذا الحق أي حرية التعبير والصحافة في المغرب، والحديث هنا عن القانون 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر والذي نص في المادة الثالثة على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة للجميع طبقا للفصل 25 من الدستور، و القانون 90.13 المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة في المادة الأولى أكد على حق المواطن في إعلام متعدد وحر وصادق ومسوؤل ومهني.

إلى ذلك، نصوص قانونية أخرى إهتمت بالبناء المؤسساتي لهيئات معنية بهذا الموضوع، ويتعلق الأمر أساسا بالقانون رقم 11.15 المتعلق بإعادة تنظيم الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري الصادر في 25 غشت 2016، والقانون رقم 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري، والقانون رقم 70.17 المتعلق بإعادة تنظيم المركز السينمائي المغربي، بالإضافة إلى كافة النصوص المنظمة للإعلام العمومي ووكالة المغرب العربي للأنباء.

حرية التعبير بين النص والواقع بجهة كلميم وادنون

على أهمية هذه المواثيق الدولية و الإقليمية والمستجدات الدستورية والقوانين التنظيمية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير والحريات الأخرى ذات الصلة كحرية الصحافة وحرية الإبداع والحريات الرقمية والحق في التجمع وتكوين الجمعيات، فإن حمولتها الحقوقية لا تتحقق إلا بقياسها وقراءتها مع نصوص قانونية أخرى خاصة القانون الجنائي، وبالواقع التطبيقي بجهة كلميم وادنون، ومدى تمكينها المواطن الوادنوني من حقه في التعبير.

وفي هذا الإطار يقول الأستاذ عبدالله بن عبدالله عضو المركز المغربي لحقوق الإنسان بكلميم، “أن أشكال حرية التعبير الأكثر ممارسة على مستوى جهة كلميم وادنون يغلب عليها الطابع الإجتماعي، كحرية التجمعات العمومية، إلا أن الإشكال على مستوى الواقع، هناك بعض الممارسات تحد أحيانا من هذه الحريات من قبيل منع بعض الوقفات الإحتجاجية، والإمتناع عن تسلم بعض ملفات الجمعيات المدنية وكذا رفض منحها وصولات الإيداع المؤقتة و النهائية.

وأضاف المتحدث ذاته في ختام كلامه: “يجب أن يكون هناك توازن في ممارسة هذا الحق، ولبلوغ هذه الغاية يستلزم الأمر توعية الجميع من سلطات إنفاذ القانون وكذا مختلف الفاعلون بأهمية إحترام حق التعبير، مع تكوين الجميع حول الخيوط الفاصلة بين حرية التعبير والمس بخصوصية الشخصية، أو نشر الأخبار الزائفة، نظرا لأهمية حرية التعبير في تكوين شخصية الأفراد وحماية الطابع الديمقراطي للمجتمع.

من جانبه، قال محمد حمو صحفي، نائب رئيس الفرع المحلي للمركز المغربي لحقوق الإنسان بطانطان، أن “الحرية تتجلى في مختلف جوانب الحياة اليومية، ويتعزز وجودها في بيئة تحترم وتحمي حقوق الإنسان، وكصحفي وناشط حقوقي بجهة كلميم وادنون نلاحظ تواجد الكثير من الجمعيات ومواقع الصحافة الإلكترونية على مستوى الجهة مما يوحي بحرية التأسيس والإبداع، إلا أنه لازالت هناك مجموعة من العراقيل تحد وبشكل واضح من الممارسة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قوبل ملفنا القانوني لتأسيس الفرع المحلي للمركز المغربي لحقوق الإنسان من طرف السلطات المحلية بطانطان برفض تسلمه، مما إستدعى الأمر منا، إرساله عبر البريد وتم رفضه أيضا وبدون مبرر، فالتجأنا إلى القضاء بعد وضع الملف عن طريق مفوض قضائي حرر محضرا بخصوص معاينته لعملية رفض الملف لدى السلطات، وتم قبول الملف قضائيا في نهاية المطاف مع الترخيص لنا بمزاولة مهامنا كهيئة حقوقية بجهة كلميم وادنون.”

وفي حديثه عن وسائل التواصل الإجتماعي كوسيلة للتعبير عن الرأي أضاف الصحفي حمو “يجب مواجهة التحديات المرتبطة بضمان ممارسة الأشكال الجديدة لحرية الرأي والتعبير في أبعادها المتعلقة بأخلاقيات إستخدام التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الإجتماعي، لتحقيق ممارسة فعالة وايجابية لإغناء النقاش العمومي على مستوى جهة كلميم وادنون.”

الدكتور ابراهيم شليح كاتب عام الفرع المحلي بأسا الزاك وعضو المكتب الجهوي لجهة الجنوب المغربي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إعتبر أن “حرية التعبير حق أساسي من حقوق الإنسان كما هو منصوص عليه بكل المواثيق الدولية والقوانين الداخلية، إلا أن هناك بعض القيود على حرية التعبير والرأي بالجهة، حيث التضييق على عديد الأفكار والأراء السياسية والحقوقية والنقابية، وهناك العديد من سجناء الرأي ومنع تجمعات سلمية وحصار على بعض الفعاليات المدنية والحقوقية والثقافية ومنعها من التأسيس أو الإشتغال الميداني”

وفي السياق نفسه يقول الدكتور “هناك قوانين متداخلة بعضها يضمن هذا الحق وبعضها يقيده أو يحد منه، لكنها قواعد دستورية وقانونية متقدمة من حيث النص والمضمون، ومايحد من فعاليتها السلطات الأمنية والإدارية، فهناك مقاربة أمنية قديمة متجددة حسب أحداث وتطورات الشارع، فكل مدن ومناطق الجهة شهدت احتجاجات واعتصامات وتظاهرات وصلت أحيانا إلى حد التصادم والمواجهة مع السلطات الأمنية، وتزداد حدتها مع طبيعة المطالب المعبر عنها من طرف المحتجين، في حين مازالت الدولة لم تتخلص بعد من واقع المقاربة الأمنية والتخوين والتشكيك في كل المطالبين بحقوقهم المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية.”

وفي طرحه لبعض الإقتراحات من أجل ممارسة صحية وسليمة للحق في حرية التعبير أشار الدكتور إلى ” تعزيز وتقوية الضمانات القانونية لممارسة الحق في الوصول السلس إلى المعلومة، وتعديل وتجويد قانون الصحافة والنشر، خاصة الصحافة الإلكترونية الذي يتضمن تهديدا حقيقيا لحريتها ويضع عراقيل متعددة للوصول للمعلومات وتلقيها ونشرها للعموم بما ينسجم مع المعايير الدولية.”

وفي هذا السياق عرفت المحاكم الإبتدائية بجهة كلميم وادنون مامجموعه 26 شكاية تتعلق بالتشهير خلال سنة 2023، إذ شهدت المحكمة الابتدائية بكلميم 17 شكاية، 5 منها ملفات رائجة حاليا، وتم حفظ ملفين، وتراوحت أحكام العشر ملفات الأخري بالمتابعة بين الغرامة والتعويض وبين شهر موقوف التنفيذ دون إستئناف أي ملف من هذه القضايا جميعها.

أما على مستوى المحكمة الإبتدائية بطانطان فقد سجلت 9 قضايا، 4 منها تتعلق بالتشهير، تم حفظ قضيتين بسبب تسجيلها ضد مجهول (Faux Compte)، وقضيتين تنازل المشتكين فيها عن شكايتهم، فيما 5 ملفات تتعلق بالإبتزاز والتهديد بالتشهير، تم حفظ ملفين إثنين منها، بينما لازالت 3 ملفات رائجة حاليا.

فيما لم تسجل أي متابعات قضائية بخصوص التجمهر والمظاهرات والإحتجاجات العمومية، وكذا الدعاوى القضائية المتعلقة بعرقلة تأسيس الجمعيات سواء تعلق الأمر برفض تسلم الملف من طرف السلطة المحلية أوعدم تسليم وصلات الإيداع، كما لم تشهد المحكمة الإدارية بأكادير أي طعن في قرار رئيس مؤسسة أو هيئة معنية على مستوى جهة كلميم وادنون، فيما يخص طلبات الحصول على المعلومات.

يمكن القول أن حرية التعبير حق أساسي كرسته المواثيق الدولية والإقليمية والتشريع الداخلي، لكنه ليس مطلقا، بل يخضع لضوابط محددة تضمن خلق التوازن بين ممارسة هذا الحق وإستقرار أمن الدولة، وهنا يبدأ الجدل حول حدود وشكل هذه المماراسات حيث تبين من تصريحات الناشطين الحقوقيين ومن أرقام واحصائيات القضايا المتعلقة بالمتابعات التي تهم حرية الرأي والتعبير بجهة كلميم وادنون أن هذا الحق مازال مهددا رغم جودة النصوص القانونية التي تحميه، الأمر الذي يستدعي ضرورة تطوير وسائل التثقيف بقواعد الممارسة بالنسبة للأفراد والإدارة على حد سواء، لأن العلاقة بين هذين العنصرين علاقة تعاون وتنسيق، والتطبيق السليم لهذا الحق رهين بوعي جميع مكونات الدولة بفلسفة النصوص القانونية التي تؤطر حرية الرأي والتعبير.

مدير الموقع

المنشور السابق

قضاة الفوج 46 يؤدون اليمين القانونية بعد الموافقة الملكية السامية على تعيينهم في السلك القضائي

على إثر الموافقة المولوية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله رئيس المجلس الأعلى…

ساعتين منذ

أمير المؤمنين يترأس اليوم الأحد إحياء ليلة المولد النبوي الشريف بمسجد حسان بالرباط

أعلنت وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة أن أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره…

4 أيام منذ

المغرب..توجه عام لتقييد استخدام القاصرين لمواقع التواصل الاجتماعي

تتجه المملكة المغربية لتقييد استخدام القاصرين لمواقع التواصل الاجتماعي، وأكدت الأغلبية الحكومية استعدادها لمناقشة تشريع…

6 أيام منذ

وزارة الصحة والحماية الاجتماعية تُعلن عن تسجيل حالة إصابة مؤكدة بجدري القردة

في إطار المنظومة الوطنية لليقظة والرصد الوبائي، وتنفيذاً لسياستها التواصلية، تُعلن وزارة الصحة والحماية الاجتماعية…

أسبوع واحد منذ

اجتماع اولي لتفعيل الشراكة بين جامعة محمد الخامس والمجتمع المدني بالداخلة للاستفادة من دورات تكوينية حول قضية الوحدة الترابية.

في سياق التحضير للشراكة بين جامعة محمد الخامس والمجتمع المدني بالداخلة استقبل السيد فريد الباشا…

أسبوع واحد منذ

المجلس الاقليمي لوادي الذهب يعقد دورته العادية لشهر شتنبر

بقاعة الاجتماعات الكبرى بولاية الداخلة، عقد المجلس الاقليمي لوادي الذهب، يومه الاثنين 9 شتنبر 2024…

أسبوع واحد منذ